الكاتب: محمد قاروط ابورحمة
يبدأ رحال روايته الليل الأزرق من خلال نص لجلال الدين الرومي الصوفي الفيلسوف، وقبل أن يختمها مع د. إيهاب بسيسو، لا ينسى بهاء المرور على د. صفاء جبران اللبنانية التي تعيش في البرازيل وجائزة جامعة بيت لحم والأصدقاء.
الكتابة فعل وليس عمل، فعل لانفعال الكاتب بكل جوارحه ومخزونه المعرفي بما يكتب، يصبهم صبا على الورق بمفردات ترهقه اختيارها ليقرأ القارئ. الكتابة شجاعة الكاتب ليقف عاريًا أمام القارئ، هذا يمدحه وهذا لا يمدحه، هذا ينسجم مع الكاتب، وهذا لا ينسجم مع الكاتب.
أما قبل: ففي الرابع من حزيران عام 1982، قصفت طائرات الاحتلال قلعة الشقيف في النبطية لبنان، بأطنان من المتفجرات من المدفعية والطائرات اللعينة، وفي نفس الوقت قصفت المكتبة المتحركة الفلسطينية لكتيبة الجرمق، قوات العاصفة. أول مكتبة عربية متنقلة كانت فلسطينية، كانت تتنقل بين الكمائن والمواقع. الثقافة جزء أصيل من النضال الوطني الفلسطيني، بل هي روح النضال الوطني الفلسطيني، وحاملة وحامية الذاكرة، وتعالج الحاضر وتوثقه، وتبني جسرا للمستقبل.
الرواية أحد أعمدة الثقافة الفلسطينية، سننتصر بوعينا بثقافتنا، سننتصر بصلابة إيماننا بحتمية النصر، والصلابة هي صلابة الفكرة والوعي، وهذا ما يقدمه بهاء رحال في روايته الليل الأزرق، رابطًا بوعي وبخيط واضح بين حبات المسبحة الفلسطينية المقدسة.
في الليل الأزرق يقدم بهاء وجبة شهية عن الحياة، حياة الشعب العربي الفلسطيني ونضاله، متنقلًا من بيت لحم إلى رام الله، إلى لبنان والعراق والكويت وتونس وفرنسا، مارًا على أسيادنا الشهداء والأسرى وعائلاتهم.
نص يصف واقع يغمزه ولا يحكم عليه. نص يثير أسئلة أكثر مما يجيب على أسئلة.
أما بعد: وصلتني هدية الأستاذ بهاء رحال الليل الأزرق بعد منتصف نهار 24/8/2023، وكان آخر ضيوف الصيف غادروا في ضحى نفس اليوم، ضيوف الصيف أبناء وبنات وأحفاد، يبعثرون الهدوء، ويشغلون كل شيء حتى المكان الذي أتربع عليه لأقرأ وأكتب. شهرين بلا قراءة وكتابة منتظمة، تراكم عندي ما اكتبه وما أقرأه. عندما تلقيت من الأستاذ بهاء رسالة عن مكان وجود الرواية، قلت في نفسي، سأضعها على القائمة. أول ما وصلتني، قرأت ثلاثة صفحات، الأولى بيضاء يتربع عليها نص مهيب لجلال الدين الرومي" والنور الذي في العين فليس إلا أثرا من نور القلب وأما النور الذي في القلب فهو من نور الله " والصفحة الأخير (الغلاف) فإن عليها نص بليغ للدكتور إيهاب بسيسو من ثلاثة فقرات جاء في الفقرة الثانية: لعلّ حضور الذاكرة، بأبعادها الزمنية والفردية والجمعية، ساهم بدوره في مد هذا العمل الروائي بالكثير من الدلالات التي استند إليها بهاء رحّال، بسلاسة ودون افتعال، لجعلها مرايا الحاضر بكل ما فيه من أمل، وتوجّس، ورغبات إنسانية في التحرر من أعباء اللحظة الراهنة، نحو مستقبل تكون فيه الحريّة واقعاً ملموساً، بكل قيمتها القادرة على صون حق الإنسان في الحياة الكريمة ودون قيود. أما الصفحة قبل الأخير التي قرأتها فهي بعنوان شكر وتقدير، ومن لا يشكر للناس لا يشكر لله. هذا الشكر المستحق للبنانية التي تعيش في البرازيل هو شكر نيابة عن فلسطين شعبا وأرضا. حيث ذكر في الصفحة 249 " امتلأت بالفرح وغمرتني سعادة من نوع خاص، والسبب في ذلك أن فلسطين لا تزال حاضرة بقوه في قلوب الناس، وأنها معشوقة الجماهير الحرة في شتى بقاع المعمورة ".
هذه الإطلالة على الصفحات الثلاثة أظهرت القيمة العليا للرواية، القيمة الوطنية، والانشغال بالوطن والشعب في الوطن والشتات، وتوثيق همومه وأماله، وتوثيق صبره وعناده، وإصراره على الحياة والنصر.
يوسف بطل الرواية في منتصف عمره يتخلى عن عاداته، والمتقاعد سعيد المتشائم الشخصية الثانية في الرواية، يسير البطلان في الرواية كتفا بكتف، وبعد ربع الرواية، تسير معهما مريم بأناقة من خلف الهواتف النقالة، ويستمر الثلاثة حتى الجزء ما قبل الأخير من الرواية، ينشغل سعيد بمرض زوجته، وتحل مريم تماما محل سعيد. استمرت مريم ومن خلف شاشات الهواتف النقالة تروي ليوسف ويروي لها، حتى جاء اليوم الذي استفردت مريم بيوسف، وألقت القبض عليه متلبسا بحبها.
تعالج الرواية من خلال استنطاق بهاء لإبطالها، وتعبير الأبطال عن أنفسهم عشرات القضايا اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، بمفردات قادر أي قارئ على التفاعل معها، وهذا يحسب للأستاذ بهاء، تطويع المفردات المتداولة في جمل وفقرات تناسب أي قارئ. هذا أولًا سلاسة الكلام في الرواية، وثانيا تطرح الرواية المشكلات التي تنشأ عن فكرة تدافع الأجيال في موضوع التقاعد، لكن يوسف وسعيد المتقاعد يقدمهما بهاء نموذجًا لتداخل الأجيال وليس لتدافعها. يوسف الأربعيني صديق لسعيد الستيني، هذا تداخل للأجيال، من جهة أخرى يوسف الذي يثق بالقدرات الأدبية لسعيد المتقاعد، حيث انتظر رأيه وملاحظاته على روايته، حاول حثه على كتابة سيرته الذاتية.
الكتاب يا سعيد يقرأه غيرنا بعد ١٠٠عام أو أكثر، والتقاعد يا سعيد لا يعني الموت، أنه حياة جديدة. يا سعيد أنت في ذاكرتك، الفدائي والقتال والمعسكرات والأشبال وبيروت والمنافي، استمع ليوسف واكتب سيرتك، سيفتخر يا سعيد أبناءك وأحفادك وأبنائهم بك. اكتبها.
كما وتلقي الرواية الضوء على الأسرى في معتقلات الاحتلال، معاناتهم، ومعاناة أسرهم من خلال تجربة أم ميلاد، وتظهر الرواية من خلال تجربة يوسف في المعتقلات كيف يتحول المعتقل إلى جامعات تعليمية، ومدارس تثقيفية تخرج الإبطال، وهذا ثالثًا. أما رابعًا، يطرح أبطال الرواية قتل الفتيات على خلفية ما يسمى الشرف حيث يراق الدم، ويذهب هدرًا بفنجان قهوة، وهذه المسالة بحاجة إلى التشديد على عقوبتها، لأن هذا القتل مخالف للدين والقانون والأخلاق العامة. ويطرح رواة الرواية مشكلة التوظيف والبحث عن العمل، وأثر مرض الواسطة على مبدأ العدالة, ومشكلة تسلط المدراء على الموظفين، وكبح جماح المبدعين، وهذا خامسًا. أما سادسا، يظهر بهاء مشكلة العمل الجماعي والمعبرة عن الوحدة الوطنية، يطرح مشكلة، أسئلة، يوسف الباحث عن الاستقرار الاجتماعي بعد معاناة الاعتقال والبحث عن عمل يليق به، يبحث عن زوجة، أو حبيبة ورفيقة، وصديقة، تصبح لاحقًا زوجة. طارد بعينيه سوزان التي طارت منه إلى أميركا، وجالس سوار التي لم تتمكن من فهم أن "أقوى الرجال هم الأكثر عزلة"، ثم أخذته وسائل التواصل الاجتماعي إلى باريس، حيث مريم. اختيار الزوج أو الزوجة في بلادنا أصبح أكثر صعوبة، بسبب الوضع الاقتصادي المتقلب، والعلاقات المتشعبة لكل من الشباب والشابات التي تنشأ من خلال المدرسة والجامعة والحارة والعمل، تزيد الخيارات أمام الجنسين فيصبح الاختيار أصعب. وهذا كان سابعًا. وثامنًا يظهر بهاء بسلاسة من بداية الرواية حتى نهايتها أثر الاحتلال على الناس والأرض والشجر والحجر. يظهر العواقب الاقتصادية للهجرة على الأسر الفلسطينية، ومعنى الغربة، ومعنى الاشتياق للوطن والعيش فيه، ويظهر عدالة النضال الفلسطيني من خلال نموذج المتضامنين من الغرب، والتي تمثلهم جويس الفرنسة صديقة مريم. كما يظهر المشكلات الإنسانية التي يحدثها الاحتلال مثل تطويق المدن والتجمعات السكانية بالأسوار والحواجز والمناطق العسكرية. بهاء الراصد لحركة النضال الفلسطيني يربطه بوعي من خلال تشبيه حصار بيروت بحصار كنيسة المهد، هذا الربط المحكم والواعي من ناحية الصمود يميز بينهما، ان الخروج من بيروت كان إلى الوطن والخروج من كنيسة المهد كان إلى المنافي. ستبقى قضية مبعدي كنيسة المهد جرحا نازفا حتى يتحقق عودتهم إلى أسرهم.
الحوار بين يوسف ومريم عن باريس جرى بين الواقع والمتخيل، مريم تعيش في باريس بأوضاعها الاقتصادية وظروفها الطارئة، وتعرف شوارع الحشاشين، والقاذورات الأخرى، وتعرف أماكن نوم بعضهم على قارعة الطرق. ويوسف يتخيل باريس الجميلات والمقاهي والحرية والعطور والنظافة. غاب عنهما حقيقة أن فرنسا استعمرت نصف العلم، ومن شمال إفريقيا العربية وجزء من بلاد السام، وبنت مفاعل ديمونة. وهذا تاسعًا. أما عاشرًا، فان توقف السلطة التشريعية عن ممارسة مهامها، فتحت الباب للسلطة التنفيذية للعمل بدون رقابة ومتابعة، وجعلت السلطة التنفيذية تقدم القوانين بدون أي مراجعة شعبية عبر المجلس التشريعي, كما أن الانقلاب الذي حدث في غزة أفسح المجال للأمن أن يتجاوز حدود صلاحياته.
ختامًا: رواية الليل الأزرق مزدحمة بالهموم والعقبات والأمل و العمل. حاولت المرور على عشرة منها، إضافة إلى إظهار قيمة الرواية، وهي رواية تستحق القراءة لأنها من وجهة نظري نص وجع فلسطيني ونص أمل أيضا. السكون والحركة في الأمكنة والأزمنة جزء من حياة الإنسان، يجعل منها بهاء، بهية في الحالتين. الحياة في رواية النيل الأزرق ليست أنيقة، إنها قاسية، لكن تستحق المجازفة لنحياها، والموت والاقتراب من الموت يشبهون بعضهم. قد يكون الموت ألطف من الاقتراب منه، هكذا شعر يوسف من صوت سعيد. سعيد الذي اقترب الموت كثيرًا من زوجته. مع جنازة الشهداء والأموات تمر زفة عريس، وكومة من السيارات تطلق زعيقها فرحا بالعرسان، يحترم كل منهما الآخر تسكت الزغاريد وأبواق السيارات ويستمر كل منهما إلى سبيله. مريم انتظرت يوسف، في ميلاد جديد من الحياة والحب، وفي نفس اليوم بكى يوسف أم ميلاد جارته والدة الأسير ميلاد. موت أم الأسير كومة حزن تخنق الأسير وإخوته وجيرانهم، تخنقنا جميعا. ويستمر يوسف حاملا حزنه على أم ميلاد وزوجة سعيد قابضا بقوة على يد الحياة، يد مريم. ومريم التي ولدت في الكويت بعد خروج والديها من بيروت عام ١٩٨٢ وعاشت قليلا في العراق استقرت بعد تخصص الطب في باريس. جمع الكتاب والكتاب ومعارض الكتب والانتماء لفلسطين، يوسف بمريم. يوسف المتعثر بالأمكنة جار المجانين يصل إلى يد مريم، فهل سينجح؟
بهاء رحال الليل الأزرق. رواية. الناشر مكتبة كل شيئ. حيفا ٢٠٢٣محمد قاروط أبو رحمه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق